فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ}
قيل اليول شدة الشر وقيل الحزن والهلاك وقيل العذاب الأليم وقيل جبل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعاً ابن جرير بسند فيه نظر وذهب كثير إلى أنه واد في جهنم فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل واد في جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره» وفي (صحيحي) ابن حبان والحاكم بلفظ «واد بين جبلين يهوى فيه الكافر» إلخ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي ويل قنوح وقد يستعمل للتحسر ومن قال ويل واد في جهنم لم يرد أن يولاً في اللغة موضوع لهذا وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرًّا من النار وثبت ذلك له انتهى.
والظاهر إن إطلاقه على ذلك كإطلاق جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأياً ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء وللمطففين خبره والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقه وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه وقوله تعالى: {الذين إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} إلخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافياً وافراً وتبديل كلمة على هنا بمن قيل لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافياً من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك وقيل إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراءان من وعلى يعتقبان في هذا الموضع فيقال اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب بأنه مع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم على الناس وافياً من غير نقص إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مداراً لذمهم والدعاء عليهم وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيداً جدًّا مما لا يجدي نفعاً فإن اعتبار كون المكيل لهم حالاً كان أو مآلاً يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتماً انتهى.
وأقول: أن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافراً حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالاً أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الاستيفاء أخذ ما لهم وافياً من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مداراً لذمهم والدعاء عليهم قلنا مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك فلان يأخذ حقه من الناس تاماً ويعطيهم حقهم ناقصاً وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد من الذم بنحو يأخذ ناقصاً وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائداً ويعطى ناقصاً لا يضر كما لا يخفى ثم يقال إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقًّا له بوجه من الوجوه ولعل مبنى كلام الفراء على ذلك فتأمل.
وجوز على أن تكون على متعلقة بـ: {يستوفون} ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضاً حسب تعلقه به فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الأفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصوران يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى وأجيب بأن المراد بالاستيفاء المعدي بعلي على ذلك الأضرار فكأنه قيل إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها والقصر بطريق القلب والاضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الإضرار مختلفاً حيث إن اضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم إن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيز العلاوة.
انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر.
والضمير المنفصل في قوله تعالى: {وَإِذَا كالوهم أَوْ وزنوهم يخسرون} للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله:
ولقد جنيتك اكمؤا وعساقلا ** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

وقولهم في المثل الحريص يصيدك لا الجواد أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم وعن عيسى بن عمر وحمزة إن المكيل له والموزون له محذوف وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بهاما أرادوا وقال الزمخشري لا يصح كون الضمير مرفوعاً للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص اخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في (الكشف) لأن التأكيد اللفظي يدفعه المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهممثلاً والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذا المعنى لا يخسر إلا هم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولاً في {كالوهم} مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من أحدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعاً عدم إثبات الألف بعد الألف بعد الواو وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفاً لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى ولعل الاقتار على الاكتيال في صورة الاستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الأخسار أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني.
وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدري في ذلك أن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن فأن أدنى حميلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضاً الغالب فيما يوزن ما هو أكثر قيمة مما يكال فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم علم أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروآت أيضاً إلا نادراً بالطريق الأولى بخلاف ما إذا ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الأخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضاً بل ربما يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤن على أخسارهم بكليات الأموال فلابد في الشق الثاني من ذكر الأخسار في الوزن أيضاً فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى.
وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا وزنوهم يخسرون ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك.
وقال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى وقيل إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقاً في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزارعين مقداراً كثيراً من الحبوب مثلاً في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئاً فشيئاً في أيام عديدة ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفاً كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الاعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضاً إلى رأي من يشتري منهم ذكراً معاً في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلاً وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقاً وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى.
{أَلا يَظُنُّ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للانكار والتعجيب ولا نافية فليست ألا هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية والظن على معناه المعروف وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للاشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليه إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي ألا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون.
{لِيوم عَظِيمٍ} لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظناً ضعيفاً لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافاً أي لحساب يوم وقيل الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأبلغ وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم اسوأ حالاً من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظناً حيث حكى سبحانه عنهم {إن نظن إلا ظناً} [الجاثية: 32] ولم يثبته عز وجل لهم والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الانكار.
وقوله تعالى: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} أي لحكمه تعالى وقضائه عز وجل منصوب بإضمار أعني وجوز أن يكون معمولاً لمبعوثون أو مرفوع المحل خبراً لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم أو مجرور كما قال الفراء بدلاً من {ليوم عظيم} [المطففين: 5] وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعاً كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن على {يوم} بالرفع وقراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ {يوم} بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والاتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال {يوم يقوم} إلخ منه على القول به ووصفه تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الاثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظراً إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث إن الميزان قانون العدل الذي قامت به السموات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره.
وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعاً «خمس بخمس قيل يا رسول الله وما خمس بخمس قال ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر».
وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى أن العرق ليلجمهم وعن كرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له إن ابنك كيال ووزان فقال أشهد أنه في النار وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف ومن هذا القبيل ما روى عن أبي رضي الله تعالى عنه لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم.
واستدل بقوله تعالى: {يوم يَقُومُ} إلخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا وأنت تعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الاستدلال بها على ذلك من العجب العجاب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}
افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد فلفظ {ويل} من براعة الاستهلال، ومثله قوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1].
وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود:
بُشرى فقد أنجز الإِقبال ما وعدا

والتطفيف: النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، وهو مصدر طفف إذ بلغ الطُفافة.
والطُفافَ (بضم الطاء وتخفيف الفاء) مَا قصر عن ملء الإِناء من شراب أو طعام، ويقال: الطَفّ بفتح الطاء دون هاء تأنيث، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حَرف المِكيال مما يُملأ به وإنما يكون شيئاً قليلاً زائداً على ما ملأ الإِناء، فمن ثَمّ سميت طفافة، أي قليل زيادة.
ولا نعرف له فعلاً مجرداً إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل، وفعله: طفّف، كأنهم راعَوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة لأن المُطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المُكتال، ويقابله الوفاء.
و{ويل} كلمة دعاء بسوء الحال، وهو في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع، والويل: اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له، وتقدم عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في سورة البقرة (79).
وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رؤوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين، وكان أهل مكة تجاراً، وكان في يثرب تجار أيضاً وفيهم اليهود مثلُ أبي رافع، وكعب بن الأشرف تاجريْ أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب.
وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل.
والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشياً في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يُسبب ذلك.
واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلاً فقال جماعة من المفسرين: إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
رواه ابن ماجه عن ابن عباس.
وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جُهينة واسمه عمرو كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر.
فجملة {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} إدماج، مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه، والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين.
والاكتيال: افتعال من الكيل، وهو يستعمل في تسلم ما يُكال على طريقة استعمال أفعال: ابتاع، وارتهن، واشتَرى، في معنى أخذ المبيع وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة، فهو مطاوع كال، كما أن ابتاع مطاوع باع، وارتهن مطاوع رهن، واشترى مطاوع شرى، قال تعالى: {فأرسل معنا أخانا نكتل} [يوسف: 63] أي نأخذ طعاماً مكيلاً، ثم تنوسي منه معنى المطاوعة.
وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل، فيقال: اكتال فلان طعاماً مثل ابتاع، ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل (من) الابتدائية فيقال: اكتال طعاماً من فلان، وإنما عدي في الآية بحرف {على} لتضمين {اكتالوا} معنى التحامل، أي إلقاء المشقة على الغير وظِلمه، ذلك أن شأن التاجر وخُلقه أن يتطلب توفير الربح وأنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة، وعن الفراء (مِن) و(على) يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكقوله: استوفيت منك.
فمعنى: {اكتالوا على الناس} اشتروا من الناس ما يباع بالكيل، فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل {اكتالوا} أي اكتالوا مكيلاً، ومعنى كالوهم باعوا للناس مكيلاً فحذف المفعول لأنه معلوم.
فالواوان من {كالوهم أو وزنوهم} عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس.
وتعدية (كالوا)، و(وزنوا) إلى الضميرين على حذف لام الجر.
وأصله كَالُوا لهم ووزنوا لهم، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة (233) {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} أي تسترضعوا لأولادكم، وقولهم في المثل الحريصُ يصيدك لا الجوادُ أي الحريص يصيد لك.
وهو حذف كثير مثل قولهم: نصحتك وشكرتك، أصلهما نصحت لك وشكرت لك، لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال: كال له طعاماً ووزن له فضة، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا: كاله ووزنه طعاماً على الحذف والإِيصال.
قال الفراء: هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون: يكيلنا، يعني ويقولون أيضاً: كالَ له ووزن له.
وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون: كال له ووزن له، ولا يقولون إلاّ: كاله ووزنه، فيكون فعل كال عندهم مثل باع.
والاقتصار على قوله: {إذا اكتالوا} دون أن يقول: وإذا اتَّزنوا كما قال: {وإذا كالوهم أو وزنوهم} اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنباً لفعل: (اتزنوا) لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل.
ولنكتة أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عيناً بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غيرَ مسكوكين، فلذلك اقتُصر في ابتياعهم من الجالبين على الاكتيال نظراً إلى الغالب، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلاً ويقبضون الأثمان وزناً.
وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم.
و{يستوفون} جواب {إذا} والاستيفاء أخذ الشيء وافياً، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل: استجاب.
ومعنى {يخسرون} يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة، والخسارة النقص من المال من التبايع.
وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف إذ وجوده فاشياً في المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة.
وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلماً واختلاساً ولؤماً، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرّقة ويتبرؤون منها، ثم يأتونها مجتمعة، وناهيك بذلك أفناً.
{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)}
استئناف ناشئ عن الوعيد والتقريع لهم بالويل على التطفيف وما وصفوا به من الاعتداء على حقوق المبتاعين.
والهمزة للاستفهام التعجيبي بحيث يَسأل السائل عن علمهم بالبعث، وهذا يرجح أن الخطاب في قوله: {ويل للمطففين} [المطففين: 1] موجه إلى المسلمين.
ويرجع الإِنكار والتعجيب من ذلك إلى إنكار ما سيق هذا لأجله وهو فعل التطفيف.
فأما المسلمون الخلص فلا شك أنهم انتهوا عن التطفيف بخلاف المنافقين.
والظن: مستعمل في معناه الحقيقي المشهور وهو اعتقاد وقوع الشيء اعتقاداً راجحاً على طريقة قوله تعالى: {إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32].
وفي العدول عن الإِضمار إلى اسم الإِشارة في قوله: {ألا يظن أولئك} لقصد تمييزهم وتشهير ذكرهم في مقام الذم، ولأنّ الإِشارة إليهم بعد وصفهم ب(المطففين) تؤذن بأن الوصف ملحوظ في الإِشارة فيؤذن ذلك بتعليل الإِنكار.
واللام في قوله: {ليوم عظيم} لام التوقيت مثل {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78].
وفائدة لام التوقيت إدماج الرد على شبهتهم الحاملة لهم على إنكار البعث باعتقادهم أنه لو كان بعث لبُعثت أمواتُ القرون الغابرة، فأومأ قوله: {ليوم} أن للبعث وقتاً معيناً يقع عنده لا قبله.
ووصف يوم بـ: {عظيم} باعتبار عظمة ما يقع فيه من الأهوال، فهو وصف مجازي عقلي.
و{يوم يقوم الناس لرب العالمين} بدل من {ليوم عظيم} بدلاً مطابقاً وفتحته فتحة بناء مثل ما تقدم في قوله تعالى: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً} في سورة الانفطار (19) على قراءة الجمهور ذلك بالفتح.
ومعنى {يقوم الناس} أنهم يكونون قياماً، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة.
واللام في {لرب العالمين} للأجل، أي لأجل ربوبيته وتلقي حكمه.
والتعبير عن الله تعالى بوصف (رب العالمين) لاستحضار عظمته بأنه مالك أصناف المخلوقات.
واللام في {العالمين} للاستغراق كما تقدم في سورة الفاتحة.
قال في (الكشاف): وفي هذا الإِنكار، والتعجيب، وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته بـ: (رب العالمين) بيان بليغ لعظيم الذنب وتفاقم الإِثم في التطفيف وفيما كان مثل حالهِ من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية. اهـ.
ولما كان الحامل لهم على التطفيف احتقارهم أهل الجَلب من أهل البوادي فلا يقيمون لهم ما هو شعار العدل والمساواة، كان التطفيف لذلك منبئاً عن إثم احتقار الحقوق، وذلك قد صار خلقاً لهم حتى تخلقوا بمكابرة دعاة الحق، وقد أشار إلى هذا التنويه به قوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} [الرحمن: 7-9] وقوله حكاية عن شعيب: {وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [الشعراء: 182- 183]. اهـ.